فصل: تفسير الآيات رقم (136- 137)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏ضربتم‏}‏ معناه‏:‏ سافرتم‏.‏ فأهل الظاهر يرون القصر في كل سفر يخرج عن الحاضرة، وهي من حيث تؤتى الجمعة، وهذا قول ضعيف، واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن راهويه‏:‏ تقتصر الصلاة في أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً‏.‏ وحجتهم أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقال الحسن والزهري‏:‏ تقصر الصلاة في مسيرة يومين ولم يذكرا أميالاً، وروي هذا القول عن مالك، وروي عنه أيضاً‏:‏ تقصر الصلاة في يوم وليلة وهذه الأقوال الثلالثة تتقارب في المعنى، وروي عن ابن عباس وابن عمر‏:‏ أن الصلاة تقصر في مسيرة يوم التام، وقصر ابن عمر في ثلاين ميلاً، وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على مسيرة خمسة وأربعين ميلاً، قال‏:‏ يقصر، وعن ابن القاسم في العتبية‏:‏ أن قصر في ستة وثلاثين فلا إعادة عليه، وقال يحيى بن عمر‏:‏ يعيد أبداً، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ في الوقت، وقال ابن مسعود وسفيان والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن‏:‏ من سافر مسيرة ثلاث قصر‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام وروي عن أنس بن مالك‏:‏ أنه قصر في خمسة عشر ميلاً، قال الأوزاعي‏:‏ عامة العلماء في القصر في مسيرة اليوم التام، وبه نأخذ‏.‏

واختلف الناس في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وحياء نفس، واختلف الناس فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح، كالتجارة ونحوها، وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وقال عطاء لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير، وقد روي عن عطاء أنها تقصر في كل المباح، والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما، وروي عن الأوزاعي وأبي حنيفة إباحة القصر في جميع ذلك‏.‏ وجمهور العلماء على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض، وهو قول مالك في المدونة وابن حبيب وجماعة المذهب، قال ابن القاسم في المدونة‏:‏ ولم يحد لنا مالك في القرب حداً، وروي عن مالك إذا كانت قرية يجمع أهلها فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة أميال؛ وإلى ذلك في الرجوع، وإن كانت لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بساتينها، وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل، وهو شاذ، وقد ثبت أن النبي عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وليس بينهما ثلث يوم، ويظهر من قوله تعالى ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا‏}‏ أن القصر مباح أو مخير فيه، وقد روى ابن وهب عن مالك‏:‏ أن المسافر مخير، وقاله الأبهري، وعليه حذاق المذهب، وقال مالك في المبسوط‏:‏ القصر سنة‏.‏

وهذا هو جمهور المذهب، وعليه جواب المدونة بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره، وقال محمد بن سحنون وإسماعيل القاضي‏:‏ القصر فرض، وبه قال حماد بن أبي سليمان، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ من صلى في السفر أربعاً فهو كمن صلى في الحضر ركعتين، وحكى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب‏:‏ أنه قال‏:‏ صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى، ويؤيد هذا قول عائشة‏:‏ فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقصروا‏}‏ فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنين من أربع، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إنّا نضرب في الأرض فكيف نصلي‏؟‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي عليه السلام، فصلى الظهر، فقال المشركون‏:‏ لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، فهلا شددتم عليهم، فقال قائل منهم‏:‏ إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ إلى آخر صلاة الخوف، وذكر الطبري في سرد هذه المقالة حديث يعلى بن أمية قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب، إن الله تعالى يقول ‏{‏إن خفتم‏}‏ وقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك فقال‏:‏ «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»، قال الطبري‏:‏ وهذا كله قول الحسن، إلا أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت‏}‏ تؤذن بانقطاع ما بعدها مما قبلها، فليس يترتب من لفظ الآية، إلا أن القصر مشروط بالخوف، وفي قراءة أبيّ بن كعب «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا»- بسقوط ‏{‏إن خفتم‏}‏ وثبتت في مصحف عثمان رضي الله عنه، وذهبت جماعة أخرى إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة القصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمناً فلا قصر له، وروي عن عائشة أنها كانت تقول في السفر‏:‏ أتموا صلاتكم، فقالوا‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت‏:‏ إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون‏؟‏ وقال عطاء‏:‏ كان يتم الصلاة من أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص، وأتم عثمان بن عفان، ولكن علل ذلك بعلل غير هذه، وكذلك علل إتمام عائشة أيضاً بغير هذا وقال آخرون‏:‏ القصر المباح في هذه الآية إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، وقصرها أن تصير ركعكة، قال السدي‏:‏ إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن يخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئاً، ويكون للإمام ركعتان، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة، فتكون للإمام ركعتان ولهم ركعة، ركعة، وقال نحو هذا سعيد بن جبير وجابر بن عبد الله وكعب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاصي ذلك، وروى ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة بكل طائفة ولم يقضوا، وقال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وروى جابر بن عبد الله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم حارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان، وقال آخرون‏:‏ هذه الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى تكبيرتين إلى تكبيرة على ما تقدم من أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى‏:‏

‏{‏فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 239‏]‏ ورجح الطبري هذا القول، وقال‏:‏ إنه يعادله قوله ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ أي بحدودها وهيئتها الكاملة، وقرأ الجمهور «تَقصُروا» بفتح التاء وضم الصاد، وروى الضبي عن أصحابه «تُقْصِروا» بضم التاء وكسر الصاد وسكون القاف وقرأ الزهري «تُقَصِّروا» بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد وشدها، و‏{‏يفتنكم‏}‏ معناه‏:‏ يمتحنكم بالحمل عليكم وإشغال نفوسكم في صلاتكم، ونحو هذا قول صاحب الحائط‏:‏ لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد، وإلى هذا المعنى ترجع كيف تصرفت، وعدو وصف يجري على الواحد والجماعة، و«مبين» مفعل من أبان، المعنى‏:‏ قد جلحوا في عدواتكم وراموكم كل مرام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ الآية قال جمهور الأمة‏:‏ الآية خطاب للنبي عليه السلام، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وقال أبو يوسف وإسماعيل بن علية‏:‏ الآية خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصلاة بإمامة النبي عليه السلام لا عوض منها، وغيره من الأمراء منه العوضن فيصلي الناس بإمامين، طائفة بعد طائفة، ولا يحتاج إلى غير ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكذلك جمهور العلماء على أن صلاة الخوف تصلى في الحضر إذا نزل الخوف، وقال قوم‏:‏ لا صلاة خوف في حضر، وقاله في المذهب عبد الملك بن الماجشون، وقال الطبري‏:‏ ‏{‏فأقمت لهم‏}‏ معناه‏:‏ حدودها وهيئتها، ولم تقصر على ما أبيح قبل في حال المسايفة، وقوله ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏، أمر بالانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذراً وتوقع حملته، وأعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب وخصفة، وفي بعض الروايات‏:‏ أنها نزلت في ناحية عسفان وضجنان، والعدو‏:‏ خيل قريش، عليها خالد بن الوليد، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة هنا‏؟‏ فقيل الطائفة المصلية، وقيل‏:‏ بل الحارسة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولفظ الآية يتناول الكل، ولكن سلاح المصلين ما خف، واختلف الآثار في هيئة صلاة النبي عليه السلام بأصحابه صلاة الخوف، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء، فروى يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أنه صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائماً وأتموا ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وروى القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل هذا الحديث بعينه، إلا أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلَّى بالطائفة الأخيرة ركعة، سلم، ثم قضت هي بعد سلامه، وبهذا الحديث أخذ مالك رحمه الله في صلاة الخوف، كان أولاً يميل إلى رواية يزيد بن رومان، ثم رجع إلى رواية القاسم بن محمد بن أبي بكر، وروى مجاهد وغيره عن ابن عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت على خلاف فيه‏:‏ أن النبي عليه السلام صلَّى صلاة الخوف بعسفان والعدو في قبلته، قال‏:‏ فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقال المشركون‏:‏ لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، فقالوا‏:‏ تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال‏:‏ فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات، وأخبره خبرهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف العسكر خلفه صفين، ثم كبر فكبروا جميعاً، ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع فرفعنا جميعاً، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي الصف الذي يليه، فلما رفع سجد الآخرون، ثم سلم فسلموا جميعاً، ثم انصرفوا، قال عبد الرزاق بن همام في مصنفه‏:‏ وروى الثوري عن هشام مثل هذا، إلا أنه قال‏:‏ ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخرون فيسجدون في مصاف الأولين، قال عبد الرزاق عن معمر عن خلاد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال‏:‏ لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف إلا مرتين، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه صلى صلاة الخوف في غير هذين الموطنين، وذكر ابن عباس أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة خوف، وروى عبد الله بن عمر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم النبي عليه السلام ركعة، ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد، وبهذه الصفة في صلاة الخوف أخذ أشهب رحمه الله، ومشى على الأصل في أن لا يقضي أحد قبل زوال حكم الإمام، فكذلك لا يبني، ذكر هذا عن أشهب جماعة منهم ابن عبد البر وابن يونس وغيرهما، وحكى اللخمي عنه‏:‏ أن مذهبه أن يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا منه صاروا تجاه العدو، وقضت الأخرى، وهذه سنة رويت عن ابن مسعود، ورجح ابن عبد البر القول بما روي عن ابن عمر، وروي أن سهل بن أبي حثمة قد روي عنه مثل ما روي عن ابن عمر سواء، وروى حذيفة حين حكى صلاة النبي عليه السلام في الخوف‏:‏ أنه صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئاً زائداً على ركعة، وذكر ابن عبد البر وغيره عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين، فكانت لرسول الله أربع، ولكل رجل ركعتان، وبهذه كان يفتي الحسن بن أبي الحسن، وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة، وقال أصحاب الرأي‏:‏ إذا كانت صلاة المغرب افتتح الإمام الصلاة ومعه طائفة، وطائفة بإزاء العدو، فيصلي بالتي معه ركعتين، ثم إلى أزاء العدو، وتأتي الطائفة التي صلت مع الإمام ركعتين إلى مقامهم الأول في الصلاة، فيقضون ركعة وسجدتين وحداناً ويسلمون، ثم يجيئون إلى إزاء العدو، وتنصرف الطائفة الأخرى إلى مقام الصلاة، فيقضون ركعتين بقراءة وحداناً ويسلمون، وكملت صلاتهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ وهذا طرد قول أصحاب الرأي في سائر الصلوات، سأل مروان بن الحكم أبا هريرة، هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف‏؟‏ قال أبو هريرة‏:‏ نعم، قال مروان‏:‏ متى‏؟‏ قال أبو هريرة‏:‏ عام غزوة نجد، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة، فكبر رسول الله وكبروا جميعاً الذين معه والذين بإزاء العدو ثم ركع رسول الله وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت الطائفة التي كانت معه إلى إزاء العدو وأقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا فسجدوا معه ثم أقلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قاعد ثم كان السلام فسلم رسول الله وسلموا جميعاً‏.‏ وأسند أبو داود في مصنفه عن عائشة رضي الله عنها صفة في صلاة النبي صلاة الخوف تقرب مما روي عن أبي هريرة وتخالفها في أشياء إلا أنها صفة صلاة الخوف من لدن قول أبي يوسف وابن علية أحد عشر قولاً منع صلاة الخوف لكونها خاصة النبي صلى الله عليه وسلم وعشر صفات على القول الشهير فإنها باقية للأمراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏سجدوا‏}‏ للطائفة المصلية والمعنى‏:‏ فإذا سجدوا معك الركعة الأولى فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية والمعنى‏:‏ فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فليكونوا‏}‏ يحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولاً بإزاء العدو ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «فلِتقم» بكسر اللام، وقرأ الجمهور ‏{‏ولتأت طائفة‏}‏ بالتاء، وقرأ أبو حيوة «وليأت» بالياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ود الذين كفروا‏}‏ الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة، لئلا ينال العدو أمله‏.‏ وأسلحة جمع سلاح، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ميلة واحدة‏}‏ بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم‏}‏ الآية ترخيص، قال ابن عباس‏:‏ نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين بقوله ‏{‏إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف، على حد ما أمروا عند قضاء المناسك بذكر الله، فهو ذكر باللسان، وذهب إلى ان ‏{‏قضيتم‏}‏ بمعنى فعلتم، أي إذا تلبستم بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات‏:‏ المرض، وغيره، وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال‏:‏ يصلي قاعداً فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يطق فعلى الأيسر، فإن لم يطق فعلى الظهر، ومذهب مالك في المدونة التخيير، لأنه قال‏:‏ فعلى جنبه أو على ظهره، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال‏:‏ يبتدئ بالظهر ثم بالجنب، قال ابن حبيب‏:‏ وهو وهم، قال اللخمي‏:‏ وليس بوهم، بل هو أحكم في استقبال القبلة، وقال سحنون‏:‏ يصلي على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره، فإن لم يقدر فعلى ظهره، و«الطمأنينة» في الآية‏:‏ سكون النفس من الخوف، وقال بعض المتأولين‏:‏ المعنى‏:‏ فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاباً موقوتاً‏}‏ معناه‏:‏ منجماً في أوقات، هذا ظاهر اللفظ، وروي عن ابن عباس‏:‏ أن المعنى مفروضاً، فهما لفظان بمعنى واحد كرر مبالغة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم‏}‏ يبين أن القضاء المشار إليه قبل، إنما هو قضاء صلاة الخوف، و‏{‏تهنوا‏}‏ معناه تلينوا وتضعفوا، حبل واهن أي ضعيف، ومنه‏:‏ ‏{‏وهن العظم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏، و‏{‏ابتغاء القوم‏}‏‏:‏ طلبهم وقرأ عبد الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الألف، وقرأ يحيى بن وثاب ومنصور بن المعتمر «تيلمون» في الثلاثة وهي في لغة، وهذا تشجيع لنفوس المؤمنين، وتحقير لأمر الكفرة، ومن نحو هذا المعنى قول الشاعر ‏[‏الشداخ بن يعمر الكناني‏]‏‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

القومُ أمثالُكُمْ لَهُمْ شَعَرٌ *** في الرَّأسِ لا ينشرون إنْ قتلوا

ثم تأكد التشجيع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترجون من الله ما لا يرجون‏}‏ وهذا برهان بيّن، ينبغي بحسبه أن تقوى نفوس المؤمنين، وباقي الآية بيّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 107‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه، وتقويم أيضاً على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما أراك الله‏}‏ معناه‏:‏ على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكن للخائنين خصيماً، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً‏}‏ سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق، وكانوا إخوة، بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقاً يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر غيره، فكان المسلمون يقولون‏:‏ والله ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعراً يتصل فيه، فمنه قوله‏:‏

أفكلما قال الرجال قصيدة *** نحلت وقالوا‏:‏ ابن الأبيرق قالها

قال قتادة بن النعمان‏:‏ وكان بنو أبيرق أهل فاقه، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من دومك الشام فجعله في مشربه له، وفي المشربة درعا له وسيفان، فعدي على المشربة من الميل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فقال‏:‏ فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا‏:‏ قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم، قال‏:‏ وقد كان بنو أبيرق قالوا‏:‏ «ونحن نسأل» والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه ثم أتى بني ابيرق فقال‏:‏ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا‏:‏ إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبنا فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي‏:‏ يابن اخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة فأتيته عليه السلام فقصصتها عليه، فقال‏:‏ انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلاً منهم يقال له‏:‏ أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة، قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته قال‏:‏ عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة، قال‏:‏ فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه، فأتيت عمي فقال‏:‏ ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن ‏{‏إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ الآيات‏.‏

فالخائنون بنو أبيرق، والبريء المرمي لبيد بن سهل، والطائفة التي همت‏:‏ أسير وأصحابه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال قتادة وغير واحد من المتأولين‏:‏ هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق، ويقال فيه‏:‏ طعيمة، وقال السدي‏:‏ القصة في طعمة بن أبيرق لكن بأن استودعه يهودي درعاً فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل الأنصاري، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح، وأبو مليل هو البريء المشار إليه، وقال عكرمة‏:‏ سرق طعمة بن أبيرق درعاً من مشربة ورمى بسرقتها رجلاً من اليهود يقال له‏:‏ زيد بن السمين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم، وخلق مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك، ونبه على مقاله لقتادة بن النعمان بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ وطعيمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة، ونزل على سلافة فرماها حسان بن ثابت بشعر، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت‏:‏ اخرج عنا، أهديت إليَّ شعر حسان، فروي‏:‏ أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله، وروي‏:‏ أنه اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر الله‏}‏ ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد براءتهم، والمعنى‏:‏ استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، فهذا حدك، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً‏}‏ رفق وإبقاء، فإن الخوان‏:‏ هو الذي تتكرر منه الخيانة، والأثيم‏:‏ هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا الشديد الساقط مرة واحدة ونحو ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة، واختيان الأنفس‏:‏ هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 110‏]‏

‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏يستخفون‏}‏ للصنف المرتكب للمعاصي مستسرين بذلك عن الناس مباهتين لهم، واندرج في طي هذا العموم، ودخل تحت هذه الأنحاء أهل الخيانة في النازلة المذكورة، وأهل التعصب لهم والتدبير في خدع النبي صلى الله عليه وسلم والتلبس عليه، ويحتمل أن يكون الضمير لأهل هذه النازلة، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من فعل نحو فعلهم، ومعنى ‏{‏وهو معهم‏}‏ بالإحاطة والعلم والقدرة، و‏{‏يبيتون‏}‏ يدبرون ليلاً، انطلقت العبارة على كل استسرار بهذا، إذ الليل مظنة الاستتار والاختفاء، قال الطبري‏:‏ وزعم بعض الطائيين‏:‏ أن التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين الطائي‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

وَبَيَّتَ قولي عِنْدَ الملي *** كِ قَاتَلَكَ اللهُ عبداً كنودا

وقال أبو زيد ‏{‏يبيتون‏}‏ معناه‏:‏ يؤلفون، ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت، أي‏:‏ يستسرون في تدبيرهم بالجدرات‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ قد تقدمت وجوه القراءات فيه في سورة آل عمران، والخطاب بهذه الآية للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج طي هذا العموم أهل النازلة، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل التعصب في هذه النازلة وهو الأظهر عندي بحكم التأكيد ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ وهي إشارة إلى حاضرين، وقد تقدم إعراب مثل هذه الآية في سورة آل عمران، و«والمجادلة»‏:‏ المدافعة بالقول وهي من فتل الكلام وليه، إذ الجدل القتل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة‏}‏ وعيد محض، أي إن الله يعلم حقيقة الأمر فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره، كما فعلتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو بشر يقضي على نحو ما يسمع‏.‏

ولما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل يقوم بأمور العصاة عنده، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم، والمهل المنفسح بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله‏}‏ الآية، منحنى من عمل السوء، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجد الله‏}‏ استعارة، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين، كانوا كالواجدين لمطلوب، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب من الله، وقال عبد الله بن مسعود يوماً في مجلسه‏:‏ كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتبت كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئاً من ثيابه قرضه بالمقراضين، فقال رجل من القوم‏:‏ لد آتى الله بني إسرائيل خيراً، فقال عبد الله‏:‏ ما آتاكم الله خير مما آتاهم، جعل لكم الماء طهوراً، وقال ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ الآية وهذه آية وعد بشرط المشيئة على ما تقتضيه عقيدة أهل السنة، وفضل الله مرجو وهو المستعان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 113‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

تقدم القول في معنى «الكسب»، «والإثم» الحكم اللاحق عن المعصية، ونسبة المرء إلى العقوبة فيها، وقوله‏:‏ ‏{‏فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ أي إياها يردي وبها يحل المكروه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خطيئة أو إثماً‏}‏ ذهب بعض الناس إلى أنهما لفظان بمعنى كرر لاختلاف اللفظ، وقال الطبري‏:‏ إنما فرق بين «الخطيئة والإثم» أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وهذه الآية لفظها عام، ويندرج تحت ذلك العموم وتوبيخه أهل النازلة المذكورة، «وبريء» النازلة قيل‏:‏ هو لبيد بن سهل، وقيل‏:‏ هو زيد بن السمين اليهودي، وقيل‏:‏ أبو مليل الأنصاري، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد احتمل‏}‏ تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات، و‏{‏بهتاناً‏}‏ معناه‏:‏ كذباً على البريء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا قلت في أخيك ما فيه مما يكره سماعه فقد اغتبته، فإن قلت ما ليس فيه بهته، فرمي البريء بهت له ونفس الخطيئة والإثم إثم مبين، معصية هذا الرامي معصيتان‏.‏

ثم وقف الله تعالى على نبيه على مقدار عصمته له، وأنها بفضل من الله ورحمة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهمت‏}‏ معناه‏:‏ لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه، وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت، وإنما المعنى‏:‏ ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك، ويجعله هم نفسه أي كما فعل هؤلاء، لكن العصمة تبطل كيد الجميع، فيبقى الضلال في حيزهم، ثم ضمن وعد الله تعالى له أنهم «لا يضرونه شيئاً» وقرر عليه نعمه لديه، من إنزَال ‏{‏الكتاب‏}‏ المتلو، ‏{‏والحكمة‏}‏ التي بعضها خوطب به وبعضها جعلت له سجية ملكها، وقريحة يعمل عنها، وينظر بين الناس بها، لا ينطق عن الهوى، وبهذين علمه ما لم يكن يعلم، وباقي الآية بيّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 116‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏نجواهم‏}‏ عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة، والنجوى‏:‏ المسارَّة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال‏:‏ قوم عدل ورضا، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل، كأنه قال‏:‏ لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه، كأنه قال‏:‏ لا خير في كثير من تناجيهم، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف، كأنه قال‏:‏ إلا نجوى من، قال بعض المفسرين‏:‏ النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سراً أو جهراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ انفراد الجماعة من الاستسرار، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه، و«المعروف»‏:‏ لفظ يعم الصدقة والإصلاح، ولكن خُصَّا بالذكر اهتماماً بهما، إذ هما عظيماً الغناء في مصالح العباد، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم» على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى‏.‏ و‏{‏ابتغاء‏}‏ نصب على المصدر، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي ‏{‏فسوف نؤتيه‏}‏ بالنون وقرأ أبو عمر وحمزة «يؤتيه» بالياء والقراءتان حسنتان وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول‏}‏ الآية، لفظ عام نزل بسبب طعمة بن أبيرق، لأنه ارتد وسار إلى مكة، فاندرج الإنحاء عليه في طي هذا العموم المتناول لمن اتصف بهذه الصفات إلى يوم القيامة، وقوله ‏{‏ما تولى‏}‏ وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره في تولي الطاغوت، وقرأ ابن أبي عبلة «يوله» و«يصله» ثم أوجب تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية وما يتصل بها من المتعقد والبعد في صفة الضلال، مقتض بعد الرجوع إلى المحجة البيضاء وتعذره وإن بقي غير مستحيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 118‏]‏

‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏يدعون‏}‏ عائد على من تقدم ذكره من الكفرة في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ ‏{‏إن‏}‏ نافية بمعنى «ما» ويدعون عبارة مغنية موجزة في معنيي‏:‏ يعبدون ويتخذون آلهة، وقرأ أبو رجاء العطاردي «إن تدعون» بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم، واختلف في معنى «الإناث» فقال أبو مالك والسدي وغيرهما‏:‏ ذلك لأن العرب كانت تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة، فاللات والعزى ومناة ونائلة‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ ويرد على هذا أنها كانت تسمي بأسماء مذكرة كثيرة، وقال الضحاك وغيره‏:‏ المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها، فقيل لهم هذا على جهة إقامة الحجة من فاسد قولهم، وقال ابن عباس والحسن وقتادة‏:‏ المراد‏:‏ الخشب والحجارة وهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء فيجيء قوله‏:‏ ‏{‏إلا إناثاً‏}‏ عبارة عن الجمادات، وقيل‏:‏ إنما هذا لأن العرب كانت تسمي الصنم أنثى فتقول‏:‏ أنثى بني فلان‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ وهذا على اختلافه يقضي بتعييرهم بالتأنيث وأن التأنيث نقص وخساسة بالإضافة إلى التذكير، وقيل معنى ‏{‏إناثاً‏}‏ أوثاناً، وفي مصحف عائشة «إن يدعون من دونه إلا أوثاناً» وقرأ ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح «إلا أنثاً» يريد وثناً، فأبدل الهمزة واواً، وهو جمع جمع على ما حكى بعض الناس، كأنه جمع وثناً على وثان، كجمل وجمال، ثم جمع وثاناً على وثن كرهان ورهن وكمثال ومثل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا خطأ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع وإنما تجمع جموع التقليل، والصواب أن تقول وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد، قال أبو عمرو‏:‏ وبهذا قرأ ابن عمر وسعيد بن المسيب ومسلم بن جندب وعطاء، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلا وَثنَاً» بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس وقرأ ابن عباس أيضاً «وُثُناً» بضم الواو والثاء وقرأت فرقة «إلا وثنَاً وقرأت فرقة» إلا أثناً «بسكون الثاء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم» إلا أنثاً «بتقديم النون وهو جمع أنيث كغدير وغدر ونحو ذلك، وحكى الطبري‏:‏ أنه جمع إناث كثمار وثمر، وحكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني، قال‏:‏ وقرأ بها ابن عباس وأبو حيوة والحسن‏.‏ واختلف في المعنى ب» الشيطان «فقالت فرقة‏:‏ هو الشيطان المقترن بكل صنم، فكأنه موحد باللفظ جمع بالمعنى، لأن الواحد يدل على الجنس، وقال الجمهور‏:‏ المراد إبليس وهذا هو الصواب، لأن سائر المقالة به تليق، و‏{‏مريداً‏}‏ معناه عاتياً صليباً في غوايته، وهو فعيل من مرد‏:‏ إذا عتا وغلا في انحرافه وتجرد للشر والغواية‏.‏

وأصل اللعن‏:‏ الإبعاد، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب، ويحتمل أن يكون ‏{‏لعنه‏}‏ صفة الشيطان، ويحتمل أن يكون خبراً عنه، والمعنى يتقارب على الوجهين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال لأتخذن‏}‏ الآية، التقدير‏:‏ وقال الشيطان، والمعنى، لأستخلصنهم لغوايتي‏:‏ ولأخصنهم بإضلالي وهم الكفرة والعصاة، والمفروض معناه في هذا الموضع المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض وهو الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجباً أن أتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 122‏]‏

‏{‏وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ولأضلنهم‏}‏ معناه أصرفهم عن طريق الهدى، ‏{‏ولأمنينهم‏}‏ لأسولن لهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله‏:‏ وهذا لا ينحصر إلى نوع واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما تمنيه بقدر نصبته وقرائن حاله، ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «إن الشيطان يقول لمن يركب ولا يذكر الله‏:‏ تغن، فإن لم يحسن قاله له تمن»، واللامات كلها للقسم، «والبتك»‏:‏ القطع، وكثر الفعل إذ القطع كثير على أنحاء مختلفة، وإنما كنى عز وجل عن البحيرة والسائبة ونحوه مما كانوا يثبتون فيه حكماً، بسبب آلهتهم وبغير ذلك، وقرأ أبو عمرو بن العلاء ‏{‏ولآمرنهم‏}‏ بغير ألف، وقرأ أبيّ «وأضلهم وأمنيهم وأمرهم» واختلف في معنى «تغيير خلق الله»، فقال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم‏:‏ أراد‏:‏ يغييرون دين الله وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ أي لدين الله، والتبديل يقع موضعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه، وقالت فرقة‏:‏ «تغيير خلق الله» هو أن الله تعالى خلق الشمس والنار والحجارة وغيرها من المخلوقات ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وقال ابن عباس أيضاً وأنس وعكرمة وأبو صالح‏:‏ من تغيير خلق الله الإخصاء، والآية إشارة إلى إخصاء البهائم وما شاكله، فهي عندهم أشياء ممنوعة، ورخص في إحصار البهائم جماعة إذا قصدت به المنفعة، إما السمن أو غيره، ورخصها عمر بن عبد العزيز في الخيل، وقال ابن مسعود والحسن‏:‏ هي إشارة إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن، فمن ذلك الحديث‏:‏ «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات والموشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله» ومنه قوله عليه السلام، «لعن الله الواصلة والمستوصلة» وملاك تفسير هذه الآية‏:‏ أن كل تغيير ضار فهو في الآية، وكل تغيير نافع فهو مباح، ولما ذكر الله تعالى عتو الشيطان وما توعد به من بث مكره، حذره تبارك وتعالى عباده، بأن شرط لمن يتخذه ولياً جزاء الخسران، وتصور الخسران إنما هو بأن أخذ هذا المتخذ حظ الشيطان، فكأنه أعطى حظ الله تبارك وتعالى فيه وتركه من أجله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعدهم ويمنيهم‏}‏‏:‏ يعدهم بأباطيلة من المال والجاه، وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك لكل أحد ما يليق بحاله، ويمنيهم كذلك، ثم ابتدأ تعالى الخبر عن حقيقة ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏‏.‏

ثم أخبر تعالى بمصير المتخذين الشيطان ولياً وتوعدهم بأن ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏، ولا يدافعونها بحيلة، ولا يعدلون عنها، ولا ينحرفون ولا يتروغون، و«المحيص» مفعول من حاص إذا راغ ونفر، ومنه قول الشاعر ‏[‏جعفر بن علبة الحارثي‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَلَمْ أَدْرِ إنْ حِصْنَا مِنَ الْمَوْتِ حِيصَةً *** كَمِ العُمْرُ باقٍ والْمَدَى مُتَطَاوِلُ

ومنه الحديث، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، يقال حاص الرجل من كذا، وجاض بالجيم والضاد المنقوطة إذا راغ بنفور، ولغة القرآن الحاء والصاد غير منقوطة‏.‏

ولما أخبر تعالى عن الكفار الذين يتخذون الشيطان ولياً، وأعلم بغرور وعد الشيطان لهم، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى جهنم، فاقتضى ذلك كله التحذير، أعقب ذلك- عز وجل- بالترغيب في ذكره حالة المؤمنين، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى النعيم المقيم، وأعلم بصحة وعده تعالى لهم، ثم قرر ذلك بالتوقيف عليه في قوله ‏{‏ومن أصدق من الله قيلاً‏}‏ والقيل والقول واحد، ونصبه على التمييز، وقرأت فرقة «سندخلهم» بالنون وقرأت فرقة «سيدخلهم» بالياء، و‏{‏وعد الله‏}‏ نصب على المصدر‏.‏ و‏{‏حقا‏}‏ مصدر أيضاً مؤكد لما قبله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 125‏]‏

‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏‏}‏

اسم ‏{‏ليس‏}‏ مضمر، و«الأمني»‏:‏ جمع أمنوية، وزنها أفعولة، وهي‏:‏ ما يتمناه المرء ويطيع نفسه فيه، وتجمع على أفاعيل، فتجتمع ياءان فلذلك تدغم إحداهما في الأخرى فتجيء مشددة وهي قراءة الجمهور، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحكم والأعرج، «ليس بأمانيكم» ساكنة الياء، وكذلك في الثانية، قال الفراء‏:‏ هذا جمع على أفاعل، كما يقال قراقير وقراقر إلى غير ذلك‏.‏ واختلف الناس فيمن المخاطب بهذه الآية‏؟‏ فقال ابن عباس والضحاك وأبو صالح ومسروق وقتادة والسدي وغيرهم‏:‏ الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم‏:‏ وسبب الآية أن المؤمنين اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب، فقال أهل الكتاب‏:‏ ديننا أقدم من دينكم وأفضل، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أفضل منكم، وقال المؤمنون‏:‏ كتابنا يقضي على الكتب، ونبينا خاتم النبيين، أو نحو هذا من المحاورة، فنزلت الآية، وقال مجاهد وابن زيد‏:‏ بل الخطاب لكفار قريش، وذلك أنهم قالوا‏:‏ لن نبعث ولا نعذب، وإنما هي حياتنا الدنيا لنا فيها النعيم ثم لا عذاب، وقالت اليهود ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏، إلى نحو هذا من الأقوال، كقولهم ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏، وغيره، فرد الله تعالى على الفريقين بقوله ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ ثم ابتدأ الخبر الصادق من قبله بقوله ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ وجاء هذا اللفظ عاماً في كل سوء فاندرج تحت عمومه الفريقان المذكوران، واختلف المتأولون في تعميم لفظ هذا الخبر، فقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ هذه الآية في الكافر، وقرأ ‏{‏وهل يجازى إلا الكفور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 17‏]‏ قال‏:‏ والآية يعني بها الكفار، ولا يعني بها أهل الصلاة، وقال‏:‏ والله ما جازى الله أحداً بالخير والشر إلا عذبه، ولكنه يغفر ذنوب المؤمنين، وقال ابن زيد‏:‏ في قوله تعالى ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك يعني المشركين، وقال الضحاكَ ‏{‏ومن يعمل سوءاً يجز به‏}‏ يعني بذلك اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ فهذا تخصيص للفظ الآية، ورأى هؤلاء أن الكافر يجزى على كل سوء يعمله وأن المؤمن قد وعده الله تكفير سيئاته، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً‏}‏ معناه، من يك مشركاً والسوء هنا الشرك فهو تخصيص لعموم اللفظ من جهة أخرى، لأن أولئك خصصوا لفظ ‏{‏من‏}‏، وهذان خصصا لفظ السوء، وقال جمهور الناس‏:‏ لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بالسوء يعمله، فأما مجازاة الكافر فالنار، لأن كفره أو بقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ لما نزلت ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ قلت يا رسول الله ما أشد هذه الآية، فقال‏:‏ يا أبا بكر أما تحزن أما تمرض أما تصيبك اللأواء‏؟‏ فهذا بذلك، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ لما نزلت هذه الآية، قال أبو بكر‏:‏ جاءت قاصمة الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما هي المصيبات في الدنيا، وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها، وقال أبيّ بن كعب، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها، فقال له أبيّ‏:‏ ما كنت أظنك إلا أفقه مما رأى، ما يصيب الرجل خدش ولا غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ فالعقيدة في هذا‏:‏ أن الكافر مجازى والمؤمن يجازى في الدنيا غالباً، فمن بقي له سوء إلى الآخرة فهو في المشيئة، يغفر الله لمن يشاء، ويجازي من يشاء، وقرأ الجمهور «ولا يجدْ» بالحزم عطفاً على ‏{‏يجز‏}‏، وروى ابن بكار عن ابن عامر‏:‏ «ولا يجدُ» بالرفع على القطع، وقوله ‏{‏من دون‏}‏ لفظة تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة، ويفسرها بعض المفسرين بغير، وهو تفسير لا يطرد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات‏}‏ دخلت ‏{‏من‏}‏ للتبغيض إذ، ‏{‏الصالحات‏}‏ على الكمال مما لا يطيقه البشر، ففي هذا رفق بالعباد، لكن في هذا البعض الفرائض وما أمكن من المندوب إليه، ثم قيد الأمر بالإيمان إذ لا ينفع عمل دونه، وحكى الطبري عن قوم‏:‏ أن ‏{‏من‏}‏ زائدة، وضعفه كما هو ضعيف، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي‏:‏ «يَدخُلون الجنة» بفتح الياء وضم الخاء، وكذلك حيث جاء من القرآن، وروي مثل هذا عن عاصم، وقرأ أبو عمرو في هذه الآية وفي مريم والملائكة وفي المؤمن «يُدخَلون» بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ بفتح الياء من ‏{‏سيدخلون جهنم داخرين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ و«النقير» النكتة التي في ظهر نواة التمرة ومنه تنبت، وروي عن عاصم «النقير» ما تنقره بأصبعك، وهذا كله مثال للحقير اليسير‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ فهنا كمل الرد على أهل الأماني والإخبار بحقيقة الأمر‏.‏

ثم أخبر تعالى إخباراً موقفاً على أنه لا أحسن ديناً ممن ‏{‏أسلم وجهه لله‏}‏، أي أخلص مقصده وتوجهه‏.‏ وأحسن في أعماله، واتبع الحنفية التي هي ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏، إمام العالم وقدوة أهل الأديان، ثم لما ذكر الله تعالى إبراهيم بأنه الذي يجب اتباعه، شرفه بذكر الخلة، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم سماه الله خليلاً، إذ كان خلوصه وعبادته واجتهاده على الغاية التي يجري إليها المحب المبالغ، وكان لطف الله به ورحمته ونصرته له بحسب ذلك، وذهب قوم إلى أن إبراهيم سمي خليلاً من الخلة بفتح الخاء، أي لأنه خلته وفاقته بالله تعالى، وقال قوم‏:‏ سمي خليلاً لأنه فيما روي في الحديث جاء من عند خليل كان له بمصر وقد حرمه الميرة التي قصد لها، فلما قرب من منزله ملأ غرارتيه رملاً ليتأنس بذلك صبيته، فلما دخل منزله نام كلالاً وهماً، فقامت امرأته وفتحت الغرارة، فوجدت أحسن ما يكون من الحواري، فعجنت منه، فلما انتبه قال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالت من الدقيق الذي سقت من عند خليلك المصري فقال‏:‏ بل هو من عند خليلي الله تعالى، فسمي بذلك خليلاً‏.‏ قال القاضي أبو محمد رحمه الله-‏:‏ وفي هذا ضعف، ولا تقتضي هذه القصة أن يسمى بذلك اسماً غالباً، وإنما هو شيء شرفه الله به كما شرف محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد صح في كتاب مسلم وغيره‏:‏ أن الله اتخذه خليلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 127‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏

ذكر- عز وجل- سعة ملكه وإحاطته بكل شيء عقب ذكر الدين وتبيين الجادة منه، ترغيباً في طاعة الله والأنقطاع إليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستفتونك‏}‏ الآية، نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في المواريث وغير ذلك، فأمر الله نبيه أن يقول لهم ‏{‏الله يفتيكم فيهن‏}‏ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه وقوله تعالى ‏{‏وما يتلى عليكم‏}‏ يحتمل ‏{‏ما‏}‏ أن تكون في موضع خفض عطفاً على الضمير في قوله ‏{‏فيهن‏}‏، أي‏:‏ «ويفتيكم فيما يتلى عليكم»، قاله محمد بن أبي موسى، وقال‏:‏ أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يسألوا عنه، ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض، ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع عطفاً على اسم الله عز وجل، أي و«يفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب»، يعني القرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآيات في أمر النساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ قالت عائشة‏:‏ نزلت هذه الآية أولاً، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عيله سولم عن أمر النساء فنزلت‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن‏}‏ معناه‏:‏ النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية بدون ما تستحقه من المهر، ومن عضل الدميمة الفقيرة أبداً، والدميمة الغنية حتى تموت فيرثها العاضل، ونحو هذا مما يقصد به الولي منفعة نفسه لا نفع اليتيمة، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر، وإلحاقها بأقرانها، وقرأ أبو عبد الله المدني- «في ييامى النساء» بياءين، قال أبو الفتح‏:‏ والقول في هذه القراءة أنه أراد أيامى فقلبت الهمزة ياء، كما قلبت في قولهم‏:‏ باهلة بن يعصر، وإنما هو ابن أعصر لأنه إنما يسمى بقوله‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

أبُنَيّ إن أَبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَه *** كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ

وكما قلبت الياء همزة في قولهم‏:‏ قطع الله أده، يريدون يده، وأيامى‏:‏ جمع أيم أصله‏:‏ أيايم، قلبت اللام موضع العين، فجاء أيامى، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ يشبه أن الداعي إلى هذا استثقال الضمة على الياء، قال أبو الفتح‏:‏ ولو قال قائل كسر أيم على أيمى على وزن سكرى وقتلى من حيث الأيومة بلية تدخل كرهاً، ثم كسر أيمى على أيامى لكان وجهاً حسناً، وقوله تعالى ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ إن كانت الجارية غنية جميلة فالرغبة في نكاحها، وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل‏:‏ هي غنية جميلة، قال له‏:‏ أطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع، وإذا قيل له‏:‏ هي دميمة فقيرة، قال له‏:‏ أنت أولى بها وبالستر عليك من غيرك، وقوله تعالى ‏{‏والمستضعفين من الولدان‏}‏ عطف على ‏{‏يتامى النساء‏}‏، والذي تلي في ‏{‏المستضعفين من الولدان‏}‏ هو قوله تعالى‏:‏

‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏، وذلك‏:‏ أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير، وكان الكبير ينفرد بالمال، وكانوا يقولون‏:‏ إنما يرث المال من يحمي الحوزة، ويرد الغنيمة، ويقاتل عن الحريم، ففرض الله لكل أحد حقه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏ عطف أيضاً على ما تقدم، والذي تلي في هذا المعنى هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم، والقسط العدل، وباقي الآية وعد على فعل الخير بالجزاء الجميل، بّيِّنٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏‏}‏

هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيذهب الزوج إلى طلاقها، أو إلى إيثار شابة عليها، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضرراً يلزمه إياها، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة، فتزيد هي بقاء العصمة، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح، ورفع الجناح فيه، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض، وهو مع وقوعها مباح أيضاً، و«النشوز»‏:‏ الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة، و«الإعراض»‏:‏ أخف من النشوز، وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن لا يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر على الاثرة، فهذا كله مباح، واختلف المفسرون في سبب الآية، فقال ابن عباس وجماعة معه‏:‏ نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال‏:‏ خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لا تطلقني واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي، ففعل فنزلت ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ الآية، وفي المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول، وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم‏:‏ نزلت الآية بسبب رافع بن خديج وخولة بنت محمد بن مسلمة، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى، فلما بقي من العدة يسير قال لها‏:‏ إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك، قالت‏:‏ بل راجعني وأصبر، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر، فقال‏:‏ إنما هي واحدة، فإما أن تقري على ما ترين من الإثرة، وإلا طلقتك، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه ‏{‏وإن امرأة خافت‏}‏ الآية، وقال مجاهد‏:‏ نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصَّالحا» بفتح الياء وشد الصاد وألف بعدها، وأصلها يتصالحا، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «يُصْلحا» بضم الياء وسكون الصاد دون ألف، وقرأ عبيدة السلماني «يُصالحا» بضم الياء من المفاعلة، وقرأ الجحدري وعثمان البتي «يَصّلحا» بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا، قال أبو الفتح‏:‏ أبدل الطاء صاداً ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا»، وقرأ الأعمش «إن اصالحا»، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود، وقوله ‏{‏صلحاً‏}‏ ليس الصلح مصدراً على واحد من هذه الأفعال التي قرئ بها، فالذي يحتمل أن يكون اسماً كالعطاء مع أعطيت والكرامة مع أكرمت، فمن قرأ «يصلحا» كان تعديه إلى الصلح كتعدية إلى الأسماء، كما تقول‏:‏ أصلحت ثوباً، ومن قرأ «يصالحا» من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا يتعدى، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعدياً في نحو قول ذي الرمة‏:‏

ومِنْ جَرْدَةٍ غَفَلٍ بساطٍ تَحَاسَنَتْ *** بها الوشْيُ قَرَّاتُ الرياحِ وَخُورُها

ويجوز أن يكون الصلح مصدراً حذفت زوائده، كما قال‏:‏ «وإن تهلك فذلك كان قدري» أي تقديري‏.‏

قال القاضي أبو محمد رحمه الله‏:‏ هذا كلام أبي علي على أن القدر مصدر جار على أن قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد، وقوله تعالى ‏{‏والصلح خير‏}‏ لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏ معذرة عن عبيدة تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره، وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير‏:‏ هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها، وقال ابن زيد‏:‏ الشح هنا منه ومنها‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ وهذا حسن، و‏{‏الشح‏}‏‏:‏ الضبط على المعتقدات والإرادات الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منها ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال تعالى فيه ‏{‏ومن يوق شح نفسه‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل، وهي رذيلة لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلاً‏؟‏ قال نعم» وأما ‏{‏الشح‏}‏ ففي كل أحد، وينبغي أن يكون، لكن لا يفرط إلا على الدين، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏ وقوله ‏{‏شح نفسه‏}‏ فقد أثبت أن لكل نفس شحاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وهذا لم يرد به واحداً بعينه، وليس يجمل أن يقال هنا‏:‏ أن تصدق وأنت صحيح بخيل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تحسنوا‏}‏ ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها‏.‏ وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن ‏{‏وتتقوا‏}‏ معناه‏:‏ تتقوا الله في وصيته بالنساء، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله

«استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم»‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء‏}‏ الآية‏.‏ معناه‏:‏ العدل التام على الإطلاق المستوي في الأفعال والأقوال والمحبة والجماع وغير ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول‏:‏ «اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني ميله بقلبه، وكان عمر ابن الخطاب يقول‏:‏ اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل، وروي أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض، ونشاطهم إليهن وبشرهم معهن، ثم نهى عن «الميل كل الميل» وهو أن يفعل فعلاً يقصده من التفضيل وهو يقدر أن لا يفعله، فهذا هو ‏{‏كل الميل‏}‏، وإن كان في أمر حقير، فكأن الكلام ‏{‏فلا تميلوا‏}‏ النوع الذي هو كل الميل وهو المقصود من قول أو فعل، وقوله تعالى ‏{‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ أي لا هي أيم ولا ذات زوج، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق منه انحمل، وهذا مطرد في قولهم في المثل‏:‏ أرض من المركب بالتعليق، وفي عرف النحويين في تعليق الفعل، ومنه في حديث أم زرع قول المرأة‏:‏ زوجي العشنق، إن انطلق أطلق، وإن أسكت أعلق، وقرأ أبيّ بن كعب «فتذروها كالمسجونة» وقرأ عبد الله بن مسعود «فتذروها كأنها معلقة» ثم قال تعالى ‏{‏وإن تصلحوا وتتقوا‏}‏ أي وإن تلتزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون ‏{‏فإن الله كان غفوراً رحيماً‏}‏ لما لا تملكونه متجاوزاً عنه، وقال الطبري‏:‏ معنى الآية، غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ فعلى هذا فهي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم، واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في التي قبل ‏{‏وإن تحسنوا‏}‏ وفي هذه ‏{‏وإن تصلحوا‏}‏ لأن الأول في مندوب إليه، وهذه في لازم، لأن الرجل له هنالك أن لا يحسن وأن يشح ويصالح بما يرضيه، في هذه ليس له أن يصلح، بل يلزمه العدل فيما يملك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 133‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏يتفرقا‏}‏ للزوجين اللذين تقدم ذكرهما، أي إن شح كل واحد منهما فلم يتصالحا لكنهما تفرقا بطلاق فإن الله تعالى يغني كل واحد منهما عن صاحبه بفضله ولطائف صنعه، في المال والعشرة، والسعة وجود المرادات والتمكن منها، وذهب بعض الفقهاء المالكيين إلى أن التفرق في هذه الآية هو بالقول، إذ الطلاق قول، واحتج بهذه على قول النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» إذ مذهب مالك في الحديث أنه التفرق بالقول لا بالبدن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا حجة في هذه الآية، لأن إخبارها إنما هو من افتراقهما بالأبدان، وتراخي المدة بزوال العصمة، و«الإغناء» إنما يقع في ثاني حال، ولو كانت الفرقة في الآية الطلاق لما كان للمرأة فيها نصيب يوجب ظهور ضميرها في الفعل، وهذه نبذة من المعارضة في المسألة، و«الواسع» معناه‏:‏ الذي عنده خزائن كل شيء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ تنبيه على موضع الرجاء لهذين المفترقين، ثم جاء بعد ذلك قوله ‏{‏وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ تنبيهاً على استغنائه عن العبادة، ومقدمة للخبر بكونه غنياً حميداً، ثم جاء بعد ذلك قوله ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلاً‏}‏ مقدمة للوعيد، فهذه وجوه تكرار هذا الخبر الواحد ثلاث مرات متقاربة‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ لفظ عام لكل من أوتيَ كتاباً، فإن وصية الله تعالى عباده بالتقوى لم تزل منذ أوجدهم، و«الوكيل»‏:‏ القائم بالأمور المنفذ فيها ما رآه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيها الناس‏}‏ مخاطبة للحاضرين من العرب، وتوقيف للسامعين لتحضر أذهانهم، وقوله ‏{‏بآخرين‏}‏ يريد من نوعكم، وروي عن أبي هريرة أنه لما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على كتف سلمان الفارسي وقال‏:‏ هم قوم هذا، وتحتمل ألفاظ الآية أن تكون وعيداً لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم، كما قد روي‏:‏ أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل نبي آدم، وقدرة الله تعالى على ما ذكر تقضي بها العقول ببدائها، وقال الطبري هذا الوعيد والتوبيخ هو للقوم الذين شفعوا في طعمة بن أبيرق وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدرع والدقيق‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ وهذا تأويل بعيد واللفظ إنما يظهر حسن رصفه بعمومه وإنسحابه على العالم جملة أو العالم الحاضر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 135‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏‏}‏

أي‏:‏ من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم سواه، فليس هو كما ظن، بل عند الله تعالى ثواب الدارين، فمن قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له وكان له في الآخرة العذاب، والله تعالى «سميع» للأقوال، «بصير» بالأعمال والنيات‏.‏

ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله ‏{‏كونوا قوامين‏}‏ الآية، وهذا بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام‏.‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ وهو العدل، وقوله ‏{‏شهداء‏}‏ نصب على خبر بعد خبر والحال فيه ضعيفة في المعنى، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط، قوله ‏{‏لله‏}‏ المعنى لذات الله ولوجهه ولمرضاته، وقوله ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏شهداء‏}‏ هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏شهداء لله‏}‏ معناه بالوحدانية، ويتعلق قوله ‏{‏ولو على أنفسكم‏}‏ ب ‏{‏قوامين بالقسط‏}‏، والتأويل الأول أبين، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقائق وقوله الحق في كل أمر، وقيامه بالقسط عليها كذلك، ثم ذكر ‏{‏الوالدين‏}‏ لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنى ب ‏{‏الأقربين‏}‏ إذ هم مظنة المودة والتعصب، فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة، فلا معنى للتفقه منها في الشهادة لهم كما فعل بعض المفسرين ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما‏}‏ معناه‏:‏ إن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه، ولا يخاف منه، وإن يكن فقيراً فلا يراعى إشفاقاً عليه فإن الله تعالى أولى بالنوعين وأهل الحالين، والغني والفقير اسما جنس والمشهود عليه كذلك، فلذلك ثنى الضمير في قوله ‏{‏بهما‏}‏، وفي قراءة أبيّ بن كعب «فالله أولى بهم» على الجمع، وقال الطبري‏:‏ ثنى الضمير لأن المعنى فالله أولى بهذين المعنيين، غنى الغني وفقر الفقير، أي‏:‏ وهو أنظر فيهما، وقد حد حدوداً وجعل لكل ذي حق حقه، وقال قوم ‏{‏أو‏}‏ بمعنى الواو، وفي هذا ضعف‏.‏

وذكر السدي‏:‏ أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، اختصم إليه غني وفقير، فكان في ضلع الفقير علماً منه أن الغني أحرى أن يظلم الفقير، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ وارتبط هذا الأمر على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فأقضي له على نحو ما أسمع» أما أنه قد أبيح للحاكم أن يكون في ضلع الضعيف، بأن يقيد له المقالات ويشد على عضده، ويقول له‏:‏ قل حجتك مدلاً، وينبهه تنبيهاً لا يفت في عضد الآخر، ولا يكون تعليم خصام، هكذا هي الرواية عن أشهب وغيره‏.‏

وذكر الطبري‏:‏ أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق، وقيام من قام في أمره بغير القسط، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تتبعوا الهوى‏}‏ نهي بيِّن، واتباع الهوى مردٍ مهلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تعدلوا‏}‏ يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا، ويكون لعدل هنا بمعنى العدول عن الحق، ويحتمل أن يكون معناه محبة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط، كأنه قال‏:‏ انتهوا خوف أن تجوروا أو محبة أن تقسطوا، فإن جعلت العامل ‏{‏تتبعوا‏}‏ فيحتمل أن يكون المعنى محبة أن تجوروا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تلووا أو تعرضوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر فاللّي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنقاذه للذي يميل القاضي عليه، وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله حسيب الكل، وقال ابن عباس أيضاً، ومجاهد، وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم‏:‏ هي في الشاهد يلوي الشهادة بلسانه ويحرفها، فلا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها‏.‏

قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-‏:‏ ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة والتوسط بين الناس، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله، وقرأ جمهور الناس «تلووا» بواوين من لوى يلوي على حسب ما فسرناه، وقرأ حمزة وابن عامر وجماعة في الشاذ «وأن تلُو» بضم اللام وواو واحدة، وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا» على القراءة الأولى، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى» ثم حذفت لاجتماع ساكنين، ويحتمل أن تكون «تلوا» من قولك ولي الرجل الأمر، فيكون في الطرف الآخر من ‏{‏تعرضوا‏}‏ كأنه قال تعالى للشهود وغيرهم‏:‏ وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه، فالولاية والإعراض طرفان، والليّ والإعراض في طريق واحد، وباقي الآية وعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 137‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏‏}‏

اختلف الناس فيما خوطب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى من أهل الكتابين، أي‏:‏ يا من قد آمن بنبي من الأنبياء، آمن بمحمد عليه السلام ورجح الطبري هذا القول‏:‏ وقيل‏:‏ الخطاب للمؤمنين على معنى‏:‏ ليكن إيمانكم هكذا على الكمال والتوفية بالله تعالى وبمحمد عليه السلام وبالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ومضمن هذا الأمر الثبوت والدوام، وقيل‏:‏ الخطاب للمنافقين، أي‏:‏ يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، ليكن إيمانكم حقيقة على هذه الصورة، وقرأ ابو عمرو وابن كثير وابن عامر، «نُزِّل» بضم النون وكسر الزاي المشددة على ما لم يسم فاعله، وكذلك قرؤوا «والكتاب الي أُنزل من قبل» بضم الهمزة وكسر الزاء على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون «نَزل وأنزل» بفتح النون والزاي وبفتح الهمزة في «أَنزل» على إسناد الفعلين إلى الله تعالى، وروي عن عاصم مثل قراءة أبي عمرو، ‏{‏والكتاب‏}‏ المذكور أولاً هو القرآن، والمذكور ثانياً هو اسم جنس لكل ما نزل من الكتاب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بالله‏}‏ إلى آخر الآية وعيد وخبر، مضمنة تحذير المؤمنين من حالة الكفر‏.‏

واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا‏}‏ فقالت طائفة منهم قتادة وأبو العالية‏:‏ الآية في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارة بعيسى والإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورجح الطبري هذا القول، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ الآية في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72‏]‏ وقال مجاهد وابن زيد‏:‏ الآية في المنافقين، فإن منهم من كان يؤمن ثم يكفر، ثم يؤمن ثم يكفر، يتردد في ذلك، فنزلت هذه الآية فيمن ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات‏.‏

قال القاضي‏:‏ وهذا هو القول المترجح، وقول الحسن بن أبي الحسن جيد محتمل، وقول قتادة وأبي العالية وهو الذي رجح الطبري قول ضعيف، تدفعه ألفاظ الآية، وذلك أن الآية إنما هي في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من التردد بين الكفر والإيمان، ثم يزداد كفراً بالموافاة، واليهود والنصارى لم يترتب في واحد منهم إلا إيمان واحد وكفر واحد، وإنما يتخيل فيهم الإيمان والكفر مع تلفيق الطوائف التي لم تتلاحق في زمان واحد، وليس هذا مقصد الآية، وإنما توجد هذه الصفة في شخص من المنافقين، لأن الرجل الواحد منهم يؤمن ثم يكفر، ثم يوافي على الكفر وتأمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ فإنها عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم، ولذلك ترددوا وليست هذه العبارة مثل أن يقول‏:‏ لا يغفر الله لهم، بل هي أشد، وهي مشيرة إلى استدراج من هذه حاله وإهلاكه، وهي عبارة تقتضي لسامعها أن ينتبه ويراجع قبل نفوذ الحتم عليه، وأن يكون من هؤلاء، وكل من كفر كفراً واحداً ووافي عليه فقد قال الله تعالى‏:‏ إنه لا يغفر له، ولم يقل ‏{‏لم يكن الله ليغفر له‏}‏ فتأمل الفرق بين العبارتين فإنه من دقيق غرائب الفصاحة التي في كتاب الله تعالى، كأن قوله ‏{‏لم يكن الله‏}‏ حكم قد تقرر عليهم في الدنيا وهم أحياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 140‏]‏

‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏‏}‏

في هذه الآية دليل ما على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين، كما ترجح آنفاً، وجاءت البشارة هنا مصرحاً بقيدها، فلذلك حسن استعمالها في المكروه، ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب‏.‏

ثم نص تعالى في صفة المنافقين على أشدها ضرراً على المؤمنين، وهي موالاتهم الكفار واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة، ثم وقف تعالى على جهة التوبيخ على مقصدهم في ذلك، أهو طلب العزة والاستكثار بهم أي ليس الأمر كذلك بل العزة كلها لله يؤتيها من يشاء، وقد وعد بها المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين، و‏{‏العزة‏}‏ أصلها‏:‏ الشدة والقوة، ومنه الأرض العزاز أي‏:‏ الصلبة، ومنه ‏{‏عزني‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ غلبني بشدته، واستعز المرض إذا قوي، إلى غير هذا من تصاريف اللفظة‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏وقد نزل عليكم‏}‏ مخاطبة لجميع من أظهر الإيمان من محقق ومنافق، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمثل أوامر كتاب الله تعالى، والإشارة بهذه الآية إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏، إلى نحو هذا من الآيات، وقرأ جمهور الناس «نُزِّل عليكم» بضم النون وكسر الزاي المشددة قال الطبري‏:‏ وقرأ بعض الكوفيينن «نُزّل» بفتح النون والزاي المشددة على معنى نزل الله، وقرأ أبو حيوة وحميد «نَزل» بفتح النون والزاي خفيفة، وقرأ إبراهيم النخعي «أنزل» بألف على بناء الفعل للمفعول، و‏{‏الكتاب‏}‏ في هذا الموضع القرآن، وفي هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي، وأن لا يجالسوا، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين‏:‏ إنه صائم فحمل عليه الأدب، وقرأ هذه الآية ‏{‏إنكم إذاً مثلهم‏}‏ وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، وهذا المعنى كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ *** فَكُلُّ قَرينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتدِي

ثم توعد تعالى المنافقين والكافرين بجمعهم في جهنم، فتأكد بذلك النهي والحذر من مجالسهم وخلطتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 143‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ صفة للمنافقين، و‏{‏يتربصون‏}‏ معناه‏:‏ ينتظرون دور الدوائر عليكم، فإن كان فتح للمؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار، وهذا حال المنافقين، و‏{‏نستحوذ‏}‏ معناه‏:‏ نغلب على أمركم، ونحطكم ونحسم أمركم، ومنه قول العجاج في صفة ثور وبقر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

يحوذهن وله حوذي *** أي يغلبهن على أمرهن، ويغلب الثيران عليهن، ويروى يحوزهن بالزاي، ومن اللفظة قول لبيد في صفة عير وأتن‏:‏

إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها *** وأوردها على عوج طوال

أحوذ جانبيها قهرها وغلب عليها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 19‏]‏ معناه‏:‏ غلب عليهم، وشذ هذا الفعل في أن لم تعل واوه، بل استعملت على الأصل، وقرأ أبيّ بن كعب «ومنعناكم من المؤمنين» وقرأ ابن أبي عبلة «ونمنعكم» بفتح العين على الصرف، ثم سلى وأنس المؤمنين بما وعدهم به في قوله ‏{‏فالله يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ أي وبينهم وينصفكم من جميعهم، وبقوله ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ وقال يسيع الحضرمي‏:‏ كنت عند علي بن أبي طالب فقال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً‏؟‏ فقال علي رضي الله عنه‏:‏ معنى ذلك‏:‏ يوم القيامة يكون الحكم، وبهذا قال جميع أهل التأويل‏.‏

و «السبيل»‏:‏ الحجة والغلبة، ومخادعة المنافقين هي لأولياء الله تعالى، إذ يظنونهم غير أولياء، ففي الكلام حذف مضاف، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم، وإن كانت نياتهم لم تقتضه، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى وقوله ‏{‏وهو خادعهم‏}‏ أي منزل الخداع بهم وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب، فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم وغم قلوبهم، وفي الآخرة عذاب جهنم، وقال السدي وابن جريج والحسن وغيرهم من المفسرين‏:‏ إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نوراً لكل إنسان مؤمن أو منافق، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، ونهض المؤمنون بذاك، فذلك قول المنافقين «انظرونا نقتبس من نوركم» وذلك هو الخدع الذي يجري على المنافقين، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي «وهو خادعْهم» بإسكان العين وذلك على التخفيف ثم ذكر تعالى كسلهم في القيام إلى الصلاة، وتلك حال كل من يعمل العمل كارهاً غير معتقد فيه الصواب تقية أو مصانعة، وقرأ ابن هرمز الأعرج «كَسالى» بفتح الكاف، وقرأ جمهور الناس «يرءّون» بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو دون ألف، وهي تعدية رأى بالتضعيف وهي أقوى في المعنى من ‏{‏يراءون‏}‏ لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم، ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق، وتقليله ذكرهم يحتمل وجهين، قال الحسن‏:‏ قل لأنه كان لغير الله، فهذا وجه، والآخر أنه قليل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر، و‏{‏مذبذبين‏}‏ معناه‏:‏ مضطربين لا يثبتون على حال‏:‏ والتذبذب‏:‏ الاضطراب بخجل أو خوف أو إسراع في مشي ونحوه، ومنه قول النابغة‏:‏

ترى كل ملك دونها يتذبذب *** ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏البعيث بن حريث‏]‏‏:‏

خَيَالٌ لأُمِّ السَّلْسَبيلِ وَدُونَها *** مَسِيرةُ شَهْرٍ للْبَرِيدِ المُذَبْذَبِ

بكسر الذال الثانية، قال أبو الفتح‏:‏ أي المهتز القلق الذي لا يثبت، ولايتمهل فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين» فالإشارة بذلك إلى حالي الكفر والإيمان، وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكره، لظهور تضمن الكلام له، كما جاء ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏وكل من عليها فان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26‏]‏ وقرأ جمهور الناس «مذبذَبين» بفتح الذال الأولى والثانية، وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد، «مذَبذِبين» بكسر الذال الثانية وقرأ أبي بن كعب «متذبذِبين» بالتاء وكسر الذال الثانية وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مَذَبذَبين» بفتح الميم والذالين وهي قراءة مردودة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن تجد له سبيلاً‏}‏ معناه سبيل هدى وإرشاد‏.‏